توفي الكاتب والمترجم البلجيكي المسلم شارل-أندريه جيليس، المعروف بإسهاماته في التعريف بالتراث الصوفي وترجماته لأعمال ذات صلة بالفكر الروحي الإسلامي، بعد مسيرة امتدت عقوداً في البحث والكتابة. اشتهر جيليس بدقته العلمية وحرصه على الأمانة النصية في نقل الأفكار من لغاتها الأصلية إلى الفرنسية، ما جعله مرجعاً لدى قرّاء يهتمون بالدراسات الروحية المقارنة وتاريخ الأفكار. وقد وصلت أعماله إلى جمهور متعدد الخلفيات، مستفيداً من لغته الواضحة ومقارباته الموثقة التي جمعت بين التحقيق الأكاديمي والاطلاع المباشر على المصادر.
انخرط جيليس مبكراً في ترجمة نصوص صوفية كلاسيكية ومعاصرة، مع تركيز خاص على إبراز طبقات المعنى في المصطلحات الروحية وسياقاتها التاريخية. وارتبط اسمه بترجمات ومراجعات نصية ساعدت على تيسير الوصول إلى أعمال كانت مقتصرة على الدارسين المتخصصين، لينسج بذلك جسراً بين القارئ العام والمكتبة الصوفية. كما نشر مقالات ودراسات تناولت مفاهيم مركزية مثل التوحيد، المعرفة الذوقية، ورمزية اللغة في الخطاب الروحي، مقدماً قراءات توازن بين التحليل اللغوي والبعد الدلالي للنص.
تميّزت مقاربة جيليس بميلٍ إلى التحقيق والتدقيق في الألفاظ، مع الحرص على تفادي الاختزالات المفهومية التي قد تُفقد النص أصالته. وقد انعكس هذا الاهتمام في حوارات فكرية أجراها مع باحثين وقرّاء، حيث دافع عن ضرورة احترام بنية النصوص الروحية وإيقاعها الداخلي عند الترجمة، باعتبارها جزءاً من رسالتها المعرفية. وساهم هذا المنهج في ترسيخ مكانته ضمن دائرة ضيقة من المترجمين الذين يتعاملون مع النصوص الروحية بوصفها بنيات دلالية متكاملة لا مجرد مواد لغوية للنقل.
لم تقتصر أعمال جيليس على الترجمة فحسب، بل شملت أيضاً تعليقات وشروحاً نقدية مكّنت القرّاء من متابعة طبقات المعنى وتاريخ المصطلحات، مع إحالات منهجية إلى المصادر والمراجع. هذا المسار أتاح لجهوده أن تتجاوز نطاق النقل إلى المساهمة في بناء معرفة تفسيرية، تجمع بين الحسّ الفيلولوجي والوعي بالسياقات الفكرية. ومع مرور الوقت، أصبح اسمه مقترناً بمشاريع نشر أعادت الاعتبار إلى نصوص ومؤلفين كان حضورهم محدوداً في الفضاء الفرنكفوني.
يحظى إرث جيليس بتقدير خاص لدى المهتمين بالتلاقي بين التراث الإسلامي والبحث الإنساني المعاصر، نظراً لطريقته المتأنية في تقديم النصوص وإبراز قيمتها المعرفية بعيداً عن التوظيف الإيديولوجي. وقد اعتمد في كتاباته على خطاب متزن يجنح إلى الموضوعية، مع إتاحة مساحة للتأمل في أسئلة المعنى والعلاقة بين اللغة والتجربة الروحية. وبهذا، أسهم في توسيع دائرة النقاش حول مفاهيم تتصل بالهوية والمعرفة والتواصل بين الثقافات، ضمن أطر بحثية بعيدة عن الاستقطاب.
برحيل شارل-أندريه جيليس، يفقد المشهد الثقافي الفرنكفوني صوتاً عمل على صيانة الدقة في التعامل مع النصوص الروحية، وعلى مدّ جسور الفهم بين مدارس فكرية متباينة. وتبقى مؤلفاته وترجماته مرجعاً لمن يسعى إلى قراءةٍ متأنية للنصوص الصوفية وفهمٍ أعمق لمفرداتها ومساراتها التاريخية. وسيظل أثره حاضراً في الأعمال التي أنجزها، وفي النهج الذي كرّسه بوصفه دعوة إلى القراءة الواعية والترجمة المسؤولة والمعرفة المتبادلة.