جمال الدين البودشيشي رجل صوفي مغربي درس العلوم الشرعية والقرآن، وترأس الطريقة القادرية البودشيشية المغربية بعد وفاة أبيه الشيخ حمزة بداية عام 2017، الذي أوصى بخلافة ابنه له، وكان متواريا عن الإعلام ولا يكاد يُرى إلا خلال الاحتفالات الكبرى للطريقة.
"هو الشيخ العارف بالله، معدن الحقيقة، ومُتجلّى الشريعة، صاحب الفيْض الجَمالي، والعزّ الكَمالي، الواصل الـمُوَصِّل، سيدي أبو مُنير جمال الدّين"، هكذا تقدم الطريقة البودشيشية شيخها الجديد، الذي ولد عام 1942 بقرية مداغ، التابعة لمحافظة بركان (شرقي المملكة المغربية)، حيث مقر الزاوية، قبل أن تضيف أنه "نمت دوحته المثمرة، في ربوع الزّاوية القادرية البودشيشية المباركة، نهلا من أنوارها، وعبّاً من علوم الحقائق والرّقائق والدّقائق بها".
بعد حصوله على الثانوية العامة في مدرسة "مولاي إدريس" الشهيرة بفاس، التحق جمال الدين بكلية الشريعة بالمدينة ذاتها ليحصل على البكالوريوس.
وانتقل إلى الرباط لمتابعة دراساته العليا بدار الحديث الحسنية ليحصل على دبلوم الدراسات العليا (ماجستير) في العلوم الإسلامية والحديث.
ولم يبتعد جمال الدين البودشيشي عن التصوف في أبحاثه الجامعية، حيث قدم رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا عام 1995، ثم سار في أطروحته لنيل الدكتوراه بدار الحديث الحسنية، في موضوع لصيق بمساره في الحياة والطريقة هو "مؤسسة الزاوية بالمغرب.. بين الأصالة والمعاصرة" سنة 2001، وهي الأطروحة التي استهدف بها "تجديد أداء مؤسسة الزاوية في الواقع المعاصر".
عمل جمال الدين البودشيشي بالتعليم سنوات، قبل أن يعمل في تفقد الكتاتيب القرآنية وتوجيه وإرشاد المربين بها، في إقليم بركان.
ظل جمال الدين البودشيشي ملازما والده الشيخ حمزة بن عباس بمقر الزاوية بمداغ عقودا، متواريا عن الإعلام والأنشطة العامة، رغم الاهتمام الكبير الذي تحظى به الزاوية في العقد الأخير، خاصة في ملتقاها السنوي الذي تنظمه في ليلة ذكرى المولد النبوي، الذي يحج إليه الآلاف من المريدين من المغرب وخارجه، مع التركيز على المريدين الأجانب الذين يقولون إنهم اهتدوا إلى الإسلام عن طريق هذه الزاوية.
كما تتردد أنباء عن انتساب مسؤولين كبار في الدولة للطريقة، بينهم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق.
ورغم ما سبق، ظل جمال الدين متواريا، ولا يظهر إلا في صورة وهو بجانب فراش والده الذي يتوسط المريدين ليلة المولد النبوي، في السنوات الأخيرة، بعدما أعيته السنون.
ولا يعرف لجمال الدين، شيخ البودشيشية الجديد، لقاءات بالإعلام، وحتى الفيديوهات القليلة جدا التي يظهر فيها على موقع يوتيوب لا يخرج حديث الرجل عن بعض الكلام العام في حضرة مريدي الطريقة عن التصوف والذكر، بينما لا تخطئ العين الحضور الكبير لابنه الشاب منير، في وسائل الإعلام المحلية والدولية، متحدثا عن الطريقة داخل المغرب وخارجه.
وبجلبابه المغربي الصوفي ناصع البياض، ولحية بيضاء، وطاقية صوفية بيضاء كذلك، ووجه لا تفارقه الابتسامة، وهو إلى جانب والده "الشيخ حمزة" انطبعت صورة جمال الدين في أذهان مريدي الطريقة والمتتبعين، وعلى الهيئة نفسها ظهر يوم جنازة والده وهو يتلقى العزاء من ثلاثة مستشارين للملك المغربي، ووزيري الأوقاف والداخلية.
فقد توفي الشيخ حمزة عن عمر 95 عاما، في 18 يناير/كانون الثاني 2017، وخلفه على رأس الطريقة الشيخ جمال الدين، حيث إن مشيخة الطريقة "البودشيشية القادرية"، تنتقل عن طريقة وصية مكتوبة ومختومة من الشيخ الراحل إلى سلفه في طريق "الولاية" الصوفية، يلخصها حال المريد "مات الشيخ.. عاش الشيخ".
لذلك لم يكن مفاجئا أن يخلف جمال الدين، الابن البكر، والده الراحل "الشيخ حمزة بن العباس البودشيشي" على رأس الطريقة "البودشيشية القادرية"، أكبر الطرق الصوفية في المغرب، حتى قبل أن يتم الكشف عن وصية الشيخ الراحل، التي خطها قبل أكثر من 26 عاما.
وتقول وصية الشيخ حمزة المحررة بمقر الزاوية بمداغ (شرقي المغرب)، في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1990، التي كُشف عنها بعد يومين على وفاة الشيخ، إن "الإذن الذي لدينا في تلقين الذكر والدعوة إلى الله على طريق الافتقار إليه، هذا الإذن ينتقل بعد مماتنا إلى ابننا الأرضي مولاي جمال الدين".
وكما لو كان يريد توضيح أن طريق مشيخة الطريقة ليست بالنسب فقط، قال الشيخ حمزة، الذي قضى 45 عاما على رأس الطريقة البودشيشية خلفا لوالده الشيخ العباس، في وصيته "فسيدي جمال وهو من صلبنا الترابي قد نشأ على الطهارة كما يعرفه الأقارب والأباعد، وقد هيأه الله لأحوال الذكر السنية التي نشأ عليها ونبت حتى تحقق له ميلاد جديد من الصلب الروحاني لهذه الطريق".
وفي هذه الوصية، حرص الشيخ حمزة على توجيه خطابه لمريدي الطريقة بقوله "فوصيتنا لكافة المريدين لوجه الله تعالى رجالا ونساء من أخذوا عنا العهد على التوبة إلى الله أن يبادروا بتجديد العهد لوارثنا الأوحد والمأذون الأرشد، ونصيحتنا لهم أن يعظموا الرابطة بينهم وبينه تعظيما لبنيانها المرصوص بعبارة التوحيد لا إله إلا الله".
ولم ينه "الشيخ حمزة" وصيته دون أن يحذر المريدين بقوله إن "من خالف العمل بمقتضى هذه الوصية فإننا والطريقة منه براء".
ويحكي جمال الدين، بعد الإفراج عن وصية والده، وقراءتها في محفل كبير لمريدي الطريقة، عن قصة هذا الوصية، فيقول إنه بعد صلاة فجر أحد أيام عام 1990، وبعدما استأذن والده في الانصراف للراحة بعد طلوع الشمس، "استبقاني قليلا حتى يطلعني على أمر فقام بفتح خزانة صغيرة بجانبه، أخرج منها وثيقة أعطاني إياها فإذا هي وصيته لي من بعده، فلم يكن لي أن قلت له أطال الله عمرك".
وكما لو كان يريد أن يبعد عنه أي شبهة بالسعي إلى خلافة والده، قال جمال الدين "لم أطلب هذا الأمر، وما طلبت شيئا من والدي، فهذا سر لم يسبق لي أن أفشيته، بل أخذت الوصية ووضعتها في مكان آمن".
وأضاف أن والده كان يلمح له بخلافته من بعده شيخا للطريقة قبل ذلك بسنين بقول الوالد لابنه "اللي عندي عندك" (السر الذي عندي عندك)، موضحا "كنت أفهم هذه الأمور لكن لا أتحدث معه فيها، بل كان ردي "أسأل الله أن يطيل عمرك".
مريدو الطريقة لم يكونوا يرون في جمال الدين البودشيشي غير امتداد روحي لأبيه الشيخ حمزة، فهذا إبراهيم بنلمقدم، أحد مريدي الطريقة، يخاطب جمال الدين بحضرته في أحد الفيديوهات على موقع يوتيوب، قبل نحو سنتين، قائلا "سلام من الله على حبنا سيدي جمال، ولا أدري هل حالكم مثل حالي كلما ذكرت سيدي وحبي جمال، فكلما رأيته إلا وكأني بسيدي حمزة فأحار في أمري، أجمال هو أم حمزة"، ليصيح المريدون "هو هو".