في قلب العاصمة التونسية، وتحديدًا على درج المسرح البلدي حيث انطلقت شرارة الثورة ضد نظام بن علي في يناير 2011، شهد المارة مشهدًا غير مألوف: شباب وكهول يرفعون أعلام حزب الله وأعلام فلسطين، ويرددون أدعية للإمام الحسين، حفيد النبي محمد. لم يكن هذا المشهد في جنوب لبنان أو العراق، بل في تونس، حيث كان الشيعة لعقود طويلة أقلية شبه غائبة عن الفضاء العام.
هذا الحضور العلني للشيعة في تونس يعيد إلى الأذهان حقبة الدولة الفاطمية، حين أسس الإسماعيليون الشيعة عاصمتهم في المهدية عام 916 قبل أن ينتقلوا إلى القاهرة. اليوم، وبعد سنوات من التهميش، عادت الطقوس الشيعية للظهور، كما حدث في 30 يونيو 2025، حين أقيمت "حسينية" علنية في قلب العاصمة، تزامنًا مع اقتراب ذكرى عاشوراء، ذكرى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء عام 680، والتي شكلت نقطة الانقسام التاريخي بين السنة والشيعة.
رغم أن الاحتفال بعاشوراء في تونس كان تقليديًا مرتبطًا بطقوس سنية كالصيام وإشعال النيران وزيارة القبور، إلا أن هذا العام شهد تحركات لافتة من جمعيات شيعية حصلت على تراخيص رسمية مؤخرًا، أبرزها جمعية "أهل البيت" التي يقودها الشيخ أحمد سلمان، المعروف بمداخلاته الإعلامية منذ 2020. هذه الجمعيات تستغل المناسبات الدينية لإطلاق مراكز ثقافية شيعية، وسط اتهامات بممارسة التبشير الديني تحت غطاء ثقافي.
التحول الأبرز جاء مع دستور 2022 الذي أقره الرئيس قيس سعيد، حيث نص الفصل الخامس على أن "الدولة وحدها تسعى، في إطار نظام ديمقراطي، إلى تحقيق مقاصد الإسلام الحقيقي"، ما جعل الشأن الديني خاضعًا لسلطة الدولة بدل المجتمع. هذا التغيير أثار مخاوف من فقدان خصوصية الإسلام المالكي في تونس، خاصة مع تزايد حضور المدارس الفقهية الأخرى دون تأثير فعلي على الحياة الدينية.
في الأوساط الدينية والأكاديمية، هناك قلق متزايد من أن غياب سياسات واضحة لحماية الهوية الدينية التونسية قد يفتح الباب أمام تمدد التيارات الشيعية، خاصة في ظل صمت السلطات عن مظاهر التشيع الجديدة. ويشير بعض المراقبين إلى أن الرئيس سعيد، الذي لم يتردد في استشارة الشعب حول قضايا مصيرية، لم يعرض مسألة التشيع للنقاش العام، ما يثير تساؤلات حول دوافع هذا التجاهل.
على مواقع التواصل الاجتماعي، تباينت ردود الفعل بين من يرى في هذه التحركات تهديدًا للهوية الدينية، ومن يعتبرها مجرد ظاهرة هامشية. البعض حذر من استغلال الدين سياسيًا، خاصة في ظل التقارب المعلن بين تونس وإيران، وعدم حظر أحزاب إسلامية متشددة مثل "حزب التحرير". ويرى محللون أن تصاعد التشيع في تونس مرتبط أيضًا بتداعيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث أصبح قادة المقاومة الشيعية رموزًا لدى بعض الشباب التونسي الباحث عن هوية جديدة أو تعبير عن التضامن مع غزة.
في النهاية، تبقى عاشوراء هذا العام اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة المجتمع والدولة على التعامل مع التعددية الدينية، وسط جدل متصاعد حول مستقبل الهوية الدينية في تونس.